مشاكل العالم الإسلامي في العصر الحاضر (الاختلاف والتفرقة بين المسلمين)
مشاكل العالم الإسلامي في العصر الحاضر
(الاختلاف والتفرقة بين المسلمين)
أنعام بلال
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
في هذه الأجواء الإسلامية الرائعة التي ننتظر لها أن تُركّز القاعدة الإسلامية التي تَشُدّ المسلمين لأن يعيشوا الإسلام على أساس من الوعي وعلى أساس من الاخلاص وعلى اساس من القوة. وقبل ذلك وبعده، على أساس من خوف اللّه ومحبته وقيمة الإسلام في نفوس المسلمين أن لا يتحوّل الى مُجرّد نظرية للحكم وللحياة كبقيّة النظريات التي نقرأها ونسمعها، ولكن أن يظّل الإسلام ديناً يفتح آفاق الانسان على الله لأنه المنهج الدائم لتحرير الناس من الوهم والخرافة وتحريرهم من العبودية لشهواتِهم وأهوائِهم، وتحريرهم من عبودية بعضهم البعض عن طريق التشريع وإقامة الحقّ والعدل في الارض، والجهاد في سبيل ذلك لتكون كلمة اللّه هي العليا وعندما ينفتح الانسان بآفاقه على اللّه، فأنه ينفتح على الحياة الرحبة بكلّ إخلاص.
مشاكل العالم الإسلامي
موضوع البحث هو مشاكل العالم الإسلامي، واحدى تلك المشاكل هو الاختلاف والفرقة بين المسلمين. وعندما نريد أن نتحدث عن هذا الموضوع فأننا لا نريد أن نتحدث عنه على أساس نظري، لتملأ أفكارنا بدراسة للمشاكل التي يعيشها المسلمون، ثم بدراسة الحلول التي يمكن أن تُحل بها تلك المشاكل. ولكن لابد لنا في كُلّ ما نسمع وفي كُلّ مانقول أن يكون الاساس عندنا هو أن تكون الكلمة التي نتكلّمها طريقنا الى الوعي وأن يكون الوعي طريقنا الى العمل. وأن لا تكون مواسمنا مواسم للترف الفكري، بل تكون مواسمنا خطوة متقدّمة الى الأمام في حساب العمل. حيث يمر العالم الإسلامي اليوم بمنعطف تاريخي لم يشهد مثله في العصر الحديث في شدّته وتأثيره على حاضره ومستقبله ويدرك المسلمون في بقاع كثيرة من العالم الإسلامي إن قوى عديدة تتألب عليه وتستهدف استنزاف قدراتهم وتبديد طاقاتهم وتمزيق وحدتهم كأمّة، مما يفرض عليهم شعور بالحذر والترقب، ويُصبح من الواجب على علماء الامّة ومفكريها أن ينهضوا لأرشادها ووقاية حاضرها ومستقبلها من المخاطر التي تتعرّض لها.
عوامل التفرقة والاختلاف
في دراسة للواقع الإسلامي الذي يعيشه المسلمون الآن، نلاحظ أن العلاقة التي تشد المسلمين الى بعضهم، ليست بالمستوى الذي تتمثل فيه الرابطة الوثيقة التي تشد أواصر المسلمين ولا نجد أمامنا في كل مشكلة من المشاكل التي تهزّ حياة المسلمين في الداخل وفي الخارج سواء كانت المشكلة مشكلة قهر سياسي أو قهر اجتماعي او قهر اقتصادي اية مشكلة من المشكلات التي نواجهها في عالمنا الإسلامي الكبير، لانجد امامنا الا بعضاً من المشاعر العاطفية المغلّفة بضباب كثيف من الافكار المضطربة المتنوعة، التي قد نلمحها في بعض الهزّات السياسية والانسانية التي تحصل في حياة بعض الشعوب الإسلامية ثم لا شيء إلاّ بعض الاحتجاجات الطائرة والانفعالات الهادرة التي سرعان ما تذوب صرخاتها في الهواء.
وقد يتساءل الباحث وهو يرصد هذه الظاهرة في حياة المسلمين بصورة عامّة يتساءل عن العوامل المؤثرة في ذلك. وقد يُفضّل البعض أن يُرجع ذلك الى ضعف الإسلام في نفوس المسلمين الأمر الذي جعلهم يبتعدون عن الشعور العميق بالأُسس الفكريّة والروحيّة والشعوريّة التي توحدهم وتخلق في داخلهم الاحساس بعمق الوحدة المصيريّة التي تشدّهم الى الواقع، ثم يضيف هذا البعض الى ذلك أن هذه المشكلة (ضعف الإسلام في نفوس المسلمين) وان الحل الوحيد هو اعادة الإسلام الى وعي المسلمين، فكراً وعاطفة وسلوكاً وإعادة المسلمين الى الإسلام.
إننا اذ نتوقف عند هذا الخط في عرض المشكلة او هذا الاسلوب في طرح المشكلة وعرضها ومعالجتها، قد نوافق على طبيعة الفكرة ولكننا لا ننسجم مع الطبيعة السهلة المبسّطة لأسلوب الطرح والعلاج. فأن مواجهة المشاكل بهذه الطريقة على ما أظن سوف تبعدنا عن الدراسة الواعية للجذور العميقة التي ترتبط بها المشاكل وتبعدنا في الوقت نفسه عن فهم الواقع الموضوعي في نطاق الظروف الطبيعيّة المحيطة بالمشكلة والفكرة. ولعلّ الكثيرين منّا لايزالون يُعالجون القضايا المعقّدة بهذا اللون من التبسيط والسهولة، حتى يُخيّل للآخرين ان المشكلة لا تمثل مشكلة في حساب الواقع وانما تمثل شبح مشكلة، مما يبعدنا ذلك عن الشعور بالخطر وبالتالي عن التعامل مع الواقع من موقع الخطورة والحذر. إننا اذ نحاول من خلال هذه الدراسة أن نشير الى بعض العوامل الموضوعيّة والمؤثرات الطبيعية التي ساهمت في تمزيق المسلمين وخلقت في داخلهم الحواجز النفسّية والفكرية التي تعمق الفواصل بينهم فنجد ان المسلمين قد ورثوا من التاريخ الكثير من الخلافات المذهبية في شؤون الخلافة والامامة وفي شؤون الفقه والشريعة وفي قضايا الفلسفة والكلام وفي جوانب الحكم والسياسة العامة، وقد كان لهذه الخلافات التاريخية دور كبير في إثارة الحقد والبغضاء والعداوة، ودور آخر في تفجير الحروب وفي اراقة الدماء البريئة الطاهرة، وذلك لأن صلتنا بتاريخنا الإسلامي أبعد من مُجرد التعرف على احداث الزمن الماضي، وأبعد ايضا من أخذ التجارب واضافتها الى المخزون الثقافي حيث ان تاريخنا الإسلامي بحكم اصالته وبفعل العوامل الخاصة التي ساهمت في تكوينه، قد أصبح الى جنب القرآن والسنّة في تكوين الرؤى والمواقف، وصياغة الكثير من المعتقدات والمعارف، وهو لدى السواد الاعظم من الناس ممّن ليس لديهم صلة واعية بالقرآن الكريم والسنّة المطهّرة أكثر ثقلاً واعظم أثراً.
وربما كان البعض من هؤلاء الذين يعيشون هذه الخلافات قد يدفعه الاخلاص للفكرة الخطأ الى أن يقاتل بأسم الاخلاص والتدين لغفلتهم عن طبيعة الخطأ في فكرتهم وربما كان البعض منهم يقاتل بأسم المنافع والمغانم بعيداً عن أي ارتباط بالحق وبالاسم، ولكنّه يستغلهما من أجل مآربه. كما روي عن الامام علي(عليه السلام) في حديثه عن هذه الظاهرة وعن هذين النموذجين، فكان عليه السلام يطرح نموذج الخوارج الذين قاتلهم ونموذج معاوية الذي قاتله كان يقول: «لا تقاتلوا الخوارج من بعدي فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه» .
كان الخوارج يعيشون الفكرة الخطأ ويُخيّل لهم أنها الحقيقة، لأنهم لم يستطيعوا ولم يريدوا أن يكتفشوا الحقيقة من خلال الامام علي(عليه السلام). فكانوا يقاتلون عن الخطأ وهم يعتقدون أنّه الحق. وبذلك لم يقاتلهم(عليه السلام) في بداية انفصالهم عنه ولم يقاتلهم بعد أن تجمعوا في جماعة خاصة بهم منفصلة عن المسلمين. كانت القضيّة إنهم أخذوا رأياً مخالفاً وأخذوا موقفاً مخالفاً ولكن عندما انطلقوا ليعيثوا في الارض فساداً ويقتلوا الابريـــاء قاتلهم الامام (عليه السلام) مـــن اجل أن يمنع فسادهم لا من أجل فكرتهم فحسب. أما معاوية فقد قاتله الامام علي(عليه السلام) لأنه كان يعرف انه ليس من الاشخاص الذين يعيشون قداسة الحق وطهر الحق وانما كان يعيش المنافع التي يتوسل اليها بأسم الحق «لا تقاتلوا الخوارج من بعدي فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه» فكان (عليه السلام)يعنى بذلك معاوية واصحابة. وفي كلتا الحالتين حالة الذين يقاتلون عن الفكرة الخطأوهم يعتقدون إنها الصواب وحالة الذين يقاتلون عن الفكرة الخطأ وهم يعرفون آنهاخطأ في كلتا الحالتين كانوا يأخذون دور الممثلين للحق، فكانت الخلافات تتجه الى العنف الفكري والكلامي او الجسدي احياناً، انطلاقاً من المواقف المخلصة للخطأ والتي تعتقد أنها الحق او من المواقف المشدودة للاطماع والنزوات الشخصية السائرة باتجاه الباطل، فكان للحديث دورٌ كبير في اضفاء صفة القداسة على ما يختلفون فيه، فقد شعر الكثيرون منهم من الحكام واتباعهم او النافذين من الشخصيات التي كانت ترعى هذا الخلاف، إن قدسية الخلاف تفرض وجود شرعية دينيّة لما يختلفون فيه من اشخاص وما يتصادمون فيما بينهم حول قضايا ومسائل فكان لابد من وضع الاحاديث على لسان النبي محمد(صلى الله عليه وآله) في مختلف هذه الأمور، مما جعل للقضية في نفوس البسطاء والساذجين من ضعفاء المسلمين بعداً جديداً يجعل من الاندفاع في هذا السبيل او ذاك شأناً دينياً مقدساً ويجعل من التضحية في هذا الاتجاه هدماً شرعياً عظيماً ولابد لهذا كله أن يثير الحماس في نفوس هؤلاء وأولئك الكثير من الخطوات المتشنجة والمواقف الحادة التي ربّما تصل الى القتل والقتال وهنا عانى المسلمون بشكل عام واتباع مدرسة اهل البيت بشكل خاص من حركات الغلوّ التي رافقت المسيرة الإسلامية.
فسبّبت لها متاعب فكريّة وعقيدية ومازالت تلقي بظلالها على بعض الاتجاهات الإسلامية، كما اُتهمت بعض المذاهب الإسلامية رغم نزاهتها وتجذّرها الفكري والعقيدي، وحُملّت مسؤولية تلك الانحرافات، التي لا تمت اليها بأيّ صلة. وكانت العصبيات القبلية والعنصرية عاملاً آخراً للفرقة، والتي ألغاها الإسلام من حسابه في افكار المسلمين ومشاعرهم فكانت تأخذ حجمها الطبيعي في حياة المسلمين بمختلف عناصر الإثارة في العهود الإسلامية الاولى فكانت المشاكل التي تحركت باتجاهات مضادة بين فريق الموالي من غير العرب وبين فريق يحتقر الموالي الذين دخلوا الإسلام حديثاً بأسم التفوق العنصري للعروبة والعرب. وبين فريق يحتقر العرب او يحاول التقليل من شأنهم على اساس التفكير الشعوبي وبدأت النشاطات الفكرية تتخذ لنفسها مجالاً رحباً في احاديث بين العرب والموالي في الشعر والنثر والخطابة وكان لابد لهذه النشاطات ان تستنكر احاديث العصبيات وتتجاهلها. وتترك احاديث التفاخر بالآباء والأجداد والغزوات والتاريخ المتحرك في اجواء الكفر حتى ان الانتصارات القبلية في المعارك الإسلامية اخذت تطبع في حياتهم طابع الزهو بالقبلية او بالعنصرية بعيداً عن الطبيعة الإسلامية لها. وكان ان حاول كل فريق من هؤلاء وأولئك أن يأخذ لنفسه حجماً قومياً في داخل الحياة الإسلامية من اجل تحقيق المزيد من الانتصارات على الآخرين من المسلمين وبذلك بدأت الصراعات القومية تفرض نفسها على مراكز التاريخ الإسلامي. في مسار بعيد عن الروح الإسلامية الواعية المنفتحة، وقد نجد في تاريخ الخلافة العباسية نماذج كثيرة من ملامح هذا الصراع الذي استطاع أن يهزّ قواعد الخلافة والخلفاء حتى انتهى بهاوبهم الى الزوال.
وسارت الحياة الإسلامية شوطاً بعيداً في هذا المجال وساعدت على خلق الحواجز وتعميق الفواصل التي تفصل بين المسلمين بالمستوى الذي تبتعد بهم عن الشعور بالوحدة الفكرية والعملية في المجالات العامة وتطور الأمر الى أبعد من ذلك فكانت فتاوى التكفير التي يكفّر بها بعضهم البعض والتفسيق التي يفسق بها بعضهم البعض بمختلف التحليلات والتأويلات القريبة والبعيدة التي تحوّل الانسان المسلم الى كافر نتيجة فكرة فرعيّة او فقهيّة أو فكرة اصوليّة او اصليّة لا تمس الجذور في العمق، ومن الطبيعي أن تكون المشاعر الدينية في هذا الجو متوترة في الاتجاه المضاد للعلاقات الطبيعية التي يجب ان تشمل المسلمين في واقعهم الاجتماعي والسياسي والنفسي. ومازالت هذه الاجواء التاريخية تفرض نفسها على الساحة في الكثير من التراث الضخم من الكتب الإسلامية في قضايا الكلام والفلسفة والشريعة والتاريخ. مما جعل للقضية عمقاً ثقافيا وفكريا يتوارث المسلمون افكاره، كما يتوارثون مشاعره وأحاسيسه في اجواء متنوعة قد تفرض عليهم اللقاء والتعاون ولكنّه يبقى في حدود المجاملة والتقيّة والمداراة التي لا تنفتح النفوس فيها على الحقيقة بتجرد وموضوعية وحياز. بل يظلّ للحقيقة المزعومة في نفوس اصحابها المعنى الجامد الذي لا يمكن أن يتحوّل الى شيء يثير الحركة، باتجاه اللقاء والتفاهم لأن القضية المفروضة من خلال ذلك كلّه هي ان الصفة الطارئة التي توصف بها هذه الجماعة من المسلمين، والصفة التي توصف بها تلك الجماعة من المسلمين إن هذه الصفة تحوّلت الى ما يُشبه الصفات الذاتية التي لا تنفصل عن الشخص، ولا يريد الشخص ان يجرّب الانفصال عن تلك الصفة مهما اختلفت الظروف والافكار. فصُنّفَ المسلمون الى صنوف متعددة لا يفكر الواحد منهم أن يلتقي فكرياً بالطرف الآخر، ولا شعورياً بمشاعر الطرف الآخر. وبهذا أصبح للمجموعات التي تمثل هذا الفريق او ذاك الفريق مصالح مستقلة تختلف عن مصالح الطرف الآخر. ولم يعد في حساب هذا الفريق او ذاك الفريق شيء اسمه المصالح الإسلامية العامّة.
ولكن كان هناك شيء واحد اسمه مصلحة هذا الفريق ولو على حساب مصلحة الفريق الآخر. ومصلحة ذاك الفريق ولو على حساب الفريق الآخر. وبذلك توزعت القوى وتشتت فشخص يبني وشخص يهدم وشخص يهاجم وآخر يدافع وبدأت بذور الفرقة في جسم الامة الإسلامية تبدوا واضحة للعيان، تماماً كما هي الدول المستقلة وربّما ينتج الموقف لكل منهما تحالفات مع اعداء الإسلام للاستعانة بهم على الجانب الآخر في مجالات الصراع.
والذي يدرس تاريخ المسلمين ويتعرف على احوال المجتمعات الإسلامية بعد القرون الثلاثة الاولى يجدهم تحللوا من مُثل عالية كثيرة لهم في دينهم فتصرفوا بعد الوحدة وضعفوا بعد القوة وتقسمت دولتهم الكبرى الى دويلات وامارات يحارب بعضهم بعضاً ويستعين بعضها على بعض بأعداء الإسلام والمسلمين. وقد كان هذا الانقسام المضعف المهلك هو الذي أطمع فيهم المغيرين من التتار والوثنيين والروم والمسيحيين والقبوط والنصارى فهجموا على ديارهم وخربوا ما اشاده المسلمين وعوقوا تقدمهم.
وجاء العصر الحديث في اجواء إسلامية لا تبتعد عن هذا الاتجاه من خلال بروز العنصر التركي الذي كان يحاول ان يفرض نفسه على الواقع الإسلامي كعنصر مميز في شخصيته وذلك من خلال الخلافة العثمانية التي كان الخلفاء فيها اتراك وكانت عاصمتها تركيا. وكان لابد لهذا الواقع ان يفرض نفسه على الجانب الشعوري للانسان المسلم الغير تركي ولاسيّما وان القضية لم تتصل بالناحية النفسيّة فحسب بل اتصلت بالجوانب الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة فيما كان يُعانيه المسلمون آنذاك من اضطهاد وتشريد وتخلف وتجهيل. ولسنا نعرف حضارة من الحضارات في التاريخ كُلّه قد عانت من التدمير الفجائي ماعانته الحضارة الإسلامية على أيدي المغول الذين جاءوا لتدمير الدولة الإسلامية وارتدوا في اربعين عاما فقط وانهم لم يأتوا ليفتحوا البلاد ويقيموا فيها بل جاءوا ليقتلوا وينهبوا ويحملوا ما يسلبون الى منغوليا. ولما ارتدّ هجومهم الدموي خلّف وراءه اقتصاداً مضطرباً وقنوات للريّ مطموره ومدارس ودوراً للكتب رماداً تذره الرياح وحكومات منقسمة على نفسها معدمه ضعيفة لا تقوى على حكم البلاد. وسكاناً هلك بعضهم وتحطمت نفوسهم. اجتمعت كل هذه العوامل وائتلفت لتحطيم كل شيء.
الأمر الذي خلق ارضيه صالحة لولادة الشعور القومي او الاقليمي ولكنّه شعور كان يتميز بالتململ والخجل والحياء والخوف من التعبير عن نفسه من خلال النوازع الدينية التي تدعوه الى ان يمارس جهداً كبيراً في سبيل ضبط مشاعره وخطواته، حفاظاً على القوة الإسلامية مما خلق في داخل الانسان المسلم آنذاك نوعاً من التردّد والقلق والحيرة فكان يتمنّى أن تعمد الخلافة الرسميّة الى ان تتجاوز اخطائها وتقوم بالأصلاحات الضرورية وكانت هذه التمنيّات تتمثّل بالمطالب الاصلاحية الى المسؤولين هناك فكانت تُقاتل بالرّفض والتنكيل والتعذيب والاعدام. وكانت الدول الاوربية بالانتظار. وكانت تشجّع كل هذا التململ لتحوّله ثورة كانت تلك الدول تشعر أن الروح الإسلاميّة تُشكّل مانعاً بين تنفيذ مخططاتها الاستعمارية لان الروح الإسلامية تمثّل القوة الإسلامية والروحية التي تدفع الانسان المسلم الى مواجهة الكفر أيّاً كان نوعه بكل قوة واصرار حتى في اشد الحالات صعوبة وضراوة فكانت أن أطلقت الدول الاوربية في الساحة السياسية والفكريّة ألوانا من الشخصيات المصطنعة التي تربط الانسان بالتاريخ القديم تارة، من خلال الحضارات السابقة على الإسلام كالفرعونيّة والآشوريّة والفينيقيّة والساسانية وغيرها من الحضارات الغابرة وتربطه بالقوميّة تارة اُخرى، من خلال العنصر العربي والفارسي والهندي والتركي وغيرها من العناصر التي يختلف الناس فيها على اساس التاريخ واللغات والعادات.
وتحوّل الإسلام من خلال هذا التفكير، ومن خلال هذه الشخصيات المصطنعة تحوّل الإسلام الى عنصر طارئ على الشخصية، فلم تعد له اصالته في عمق الانسان المسلم وفي تاريخه حتى أننا اصبحنا نقرأ الكتب والابحاث التي تتحدّث عن الفتح الإسلامي في بعض البلدان الإسلامية كأنتكاسة قومية في نطاق حالات القهر والغزو الخارجي والذي تتعرض له الامة. وبدأت القضية تفرض نفسها من خلال الواقع السيء الذي يشوّه الحكم الإسلامي آنذاك في نفوس اتباعهِ ليأخذ ذلك الحكم صورة الحكم التركي بدلاً من صورة الحكم الإسلامي.
ومن هذا كلّه نشأت الطائفية السياسية التي تحاول أن تنظر الى الشخصية الطائفية والمذهبية كإطار يُحدّد للأفراد صفتهم السياسيّة. وكان اذ دخل الاستعمار الكافر مع كل جنود الكفر الفكريين من هذا الباب ليعبث بالمسلمين في حياتهم السياسية وفي حياتهم الاجتماعيّة والاقتصادية والتربويّة وذلك من خلال الايحاء لهم بالحماية الطائفية لكل فريق منهم او بتغليب جانب على جانب في حالات الإثارة التي يضعها من خلال أدواته وبأساليبه الشيطانيّة الخفيّة وذلك بابراز عناصر الإثارة في الساحة مما يؤدي الى التقاتل والتنازع في جميع المجالات الثقافية والسياسيّة والاجتماعية والعسكرية ثم يتدّخل بينهم كملائكة الله الصالحين بصفة الفريق الحيادي الذي يتدخّل للصلح وللسلم وانهاء النزاع ضمن شروط واوضاع جديدة يضعها بنفسه والتي قد لا تخلو من ثغرات وسلبيات تخدم مصالحه الاستعمارية في العاجل والآجل. ولو درسنا اغلب الحالات الطائفية السلبية في واقعنا الإسلامي العام، وفي كُلّ مجالاته وفتّشنا جذورها، لرأينا اليد الاستعمارية الخفيّة تختفي وراء كثير من اساليب الإثارة واساليب التفجير الذي يُستغّل فيها الهوس الطائفي والبدائية السياسية والتخلف الفكري من اجل المزيد من المشاكل والخلافات التي تُزيد القضية عمقاً ولاتزال اللعبة تفرض نفسها على الساحة ولايزال اللاعبون يتحركون في الساحة بكل حريّة ولاتزال ادوات اللعبة المتوفرة في الساحة تكفل لحركة اللعب بمصائر الإسلام والمسلمين، كل الشروط الموضوعية للنمو والازدهار، ومازالت المخططات الاستعمارية تعمل في الإسلام والمسلمين تدميراً وتمزيقاً على جميع المستويات بأسم الطائفية والطائفيين من الزعماء الذين يعيشون على حساب الإسلام ولكن من دون إسلام.
وتحوّل المستعمرون في وعي بعض الامم ولاسيما العرب الى منقذين ليحققوا لهم الحكم الواحد في الدولة العربية الواحدة واستطاع الاستعمار الكافر من خلال ذلك التفكير الساذج لدى البعض من ابناء الامة أن يدخل بلاد المسلمين فاتحاً في زهو الفاتحين المقبولين في البداية. وقد لاحظنا في تلك الفترة أن المسلمين المخلصين للاسلام وقفوا أمام هذه المخططات وواجهوا الاستعمار البريطاني على سبيل المثال، بكل قوة بقيادة علماء المسلمين، كما يحدثنا التاريخ عن ثورة العشرين في العراق والتي قادها علماء الامة آنذاك وثورة التنباك في ايران والتي قادها علماء الامة ايضاً ولكن الاستعمار الكافر والعدو الحاقد لم يهدأ له بال فبدأ بالتخطيط من الداخل والخارج ومن ضمن ما خططه هو الكتب التعليميّة والتي تقدم التاريخ الى الناشئة والتي كانت تحفل بالكثير الكثير من البرامج التي تتحدث عن التاريخ القديم وعن الشخصيّة القوميّة والاقليمية لتفرض نفسها على الشخصية الإسلامية. أما الشخصية الإسلامية فأنها كانت تتحدّث عنها في بعض الحالات على آنهاكنتاج للشخصيّة القومية تارة او تقدم للاسلام على إنه دين لا دخل له بتكوين الشخصية، بل يكتفي لأن يمنح الانسان المزيد من الروح العبادية الخاشعة امام الله من دون أن يكون له علاقة بالحياة الخاصة والعامة. ودخلت القومية والاقليمية وغيرهما الى الحياة العقائدية السياسية. فأصبح لكل واحد منها إطار عقيدي يرتكز على فلسفة ماديّة او روحيّة وتحوّل الاطار الى تنظيمات وتجمّعات تفرض نفسها على الساحة. وتنوعت التجمعات الوطنية والقومية في صيّغ متشابهة ومتخالفة. وحتى اصبحت تُمثل الدمى المتحركة التي يُزينها الاجنبي تماماً كما هي الدكاكين والمحلات التي تتنوع فيها المعروضات وتختلف فيها الواجهات وشغلت هذه الواجهات العقائدية والسياسية الناس عن انفسهم وعن دينهم فاندمجوا في اللعبة بين اللاعبين الكبار واللاعبين الصغار، ظناً منهم أنها تحلّ لهم مشكلة، ولكنّها أضافت لهم جبالا من المشاكل المعقّدة التي اصبحت تبحث وتبحث من جديد عن الحلول الجديدة في طريق المشاكل الجديدة.
وعادت العصبيات لتفرض نفسها من خلال هذه الشخصيات الجديدة، وأصبح من الطبيعي أن يتحدث المتحدثون عن الاخلاص للأرض بعيداً عن المبدأ والرسالة، وعن التضحية في سبيل القومية بعيداً عن الإسلام. وبدأت الاتهامات التي تتحرك في الساحة في وعي اللاعبين وفي ادوات اللعبة توجّه الى هذه الفئة إنها اتصلت بهذا الاجنبي مع التأكيد على صفة الاجنبي بما تحمله من معان نفسية وفكرية مع إنه مسلم وتوجّه الى تلك الفئة بأنها تعاونت مع الجهة الاخرى في اطار الإسلام، بعيداً عن قضايا الوطن بمفهومه الغربي، او عن قضايا القوميّة بمفهومها المحدود.
وانفصل المسلمون عن الشعور بالشخصية الإسلامية فيما يمثّله من معان واوضاع وتحركات وعلاقات وتحولوا الى جماعات متنوعة منقسمة على نفسها فلكل منهم شخصية يخلص لها ويقاتل من اجلها ولكل منهم مسار يتحرك فيه ويقاتل من أجله، تماماً كما قال الشاعر:
وتفرّقوا شيعا لكل قبيلة *** فيها أمير المؤمنين ومنبرُ
وقد نلاحظ الى جانب ذلك من خلال دراستنا للواقع الإسلامي وجود كثير من العوامل الجزئية المتمثلة في بعض الاوضاع الشخصية التي تتجسد في طموح شخصي سياسي يطرح نفسه في الساحة كأداة من أدوات اللعبة التي تحركها القوى الكُبرى في تخطيطها الشيطاني لتفجير العالم الإسلامي وتقسيمه، وإجهاض طموحاته الكبيرة في التكامل والنمو والتقدم. وقد نلاحظ ذلك في بعض العوامل الاقتصادية التي تتدخل في حركة الواقع من اجل أن تأخذ لنفسها حجماً كبيراً في تحريك الاقتصاد لمصالحها الاستغلالية والاحتكارية. الامر الذي يدفعها الى مواجهة الروح الإسلامية التي ترفض مثل ذلك، بالحرب والقتال بالحروب المتنوعة الألوان، وبالأساليب التي تنسجم مع اجواء الكفر والضلال في عملية تنسيق وتخطيط. الامر الذي يفسح المجال لكثير من القوى التي تلعب لعبتها في تمزيق المسلمين، بما يكفل لها تحقيق اغراضها واطماعها في ثروات المسلمين، وهذا ما نواجههُ في الخطة الاستعمارية التي تحاول تفجير البلاد الإسلامية بمختلف الصراعات الشخصية والطائفية والاقليمية والقومية من أجل استنزاف الطاقات الإسلامية وتحويلها الى طاقات تتفجّر ضد نفسها لتتحول طاقات خائرة نخره متعبة لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً هذا من جهة. ومن جهة اُخرى، نواجه الهجمة الكبرى على الثروات الموجودة في بلاد المسلمين التي تتصارع الدول الكبرى في سبيل السيطرة عليها، ولذلك فانها تعمل على أن يعيش المسلمون أجواء اللعبة فينقسمون بين فئة تؤيد هذا المعسكر لتنفذ مخططاته في آفاق الحرب والسلم وبين فئة تؤيد المعسكر الآخر في الآفاق التي يتحرك فيها. وهكذا اندفع المسلمون الى مجالات جديدة من مجالات التمزق السياسي وتعدده ومازالت المخططات الاستعمارية المغلفة بالواجهات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، تلعب دورها من اجل أن لا يقف المسلمون على أقدامهم كقوة جديدة تطرح الحلول الإسلامية الفكرية والعلمية للانسان والحياة من اجل صنع العالم الجديد الذي كان هدف النبوات والانبياء فيما عبّر الله عنه سبحانه وتعالى في قوله: (لقد ارسلنا رسلنا بالبينات والهدى وانزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط).
ومازال الجهاد في هذا السبيل يتحرك من اجل تركيز القاعدة الصلبة على اساس متين.
والآن تلك هي الصورة، التشرذم الطائفي والتمزق القومي والاقليمي والتخلف الحضاري والصراعات التي تلتهب على اساس تصريح من هذا وخطاب من ذاك، او على قطعة أرض هنا أو قطعة أرض هناك او على مناطق نفوذ لهذه الجهة او لتلك الجهة فكيف يمكن أن تتبدل الصورة، ويتغيّر الواقع هل يكفي أن نقول في اسلوب بسيط وسهل ليعد المسلمون الى إسلامهم. وليرجعوا الى الله، وليعتصموا بحبل اللّه وليلتزموا بميثاقه ليجدوا أمامهم الامة الواحدة والهدف الواحد. إنه اسلوب سهلٌ وجميل ولكنه لم يقدم شيئاً أو يؤخّر مادامت المشاكل كامنة في النفوس وفي الوسائل والاهداف. وربما يُطرح سؤال هنا. أن هذا الكلام يدفع الكثيرين منا الى اليأس والاستسلام للواقع المر وهو لا يزيد الشقّة إلاّ عمقاً والجرح الا إتساعاً. فنقول جواباً على ذلك ان الموقف يتطلب جهود مضنية في هذا المجال من الذين نذروا أنفسهم للتقريب بين صفوف المسلمين وسعوا جهدهم لردم الهوة المصطنعة وتضميد الجراح وذلك من خلال الاحساس بالمسؤولية والشعور بالتكليف الشرعي والحرص على وحدة الصف وكل سعي في هذا المجال اذا اُريد له النجاح فلابد أن يقوم أولاً على دراسة وافية لعوامل التفرقة التي ادّت بالمسلمين الى ماهم عليه، وبعد ذلك التخطيط لازالة تلك العوامل، وتحصين المجتمع الإسلامي ضدها واستبدال دواعي الاتحاد والالفة بها.
ولابد لنا من البحث على وسائل جديدة للعمل غير الوسائل الخطابية التي تكثر النصائح والوصايا والمواعظ والتوجيهات من الأساليب العموميّة التي لا تمس الواقع الملتهب عن قرب لانها وان طرحت الحل بصورة شفويّة الا إن الحل لابد أن يتحرك على نطاق الواقع الإسلامي وعلى جميع الاصعدة.
وقد نريد أن نثير هنا بعض الافكار، وأن ما نثيره مقدماً وليس هو الحل لأن القضية مرتبطة بجوانب كثيرة وجذور كبيرة. ولكننا نريد أن نطرح بعض الافكار حول هذه المشاكل التي نعيشها كمسلمين ونتمزق فيها كمسلمين ففي النطاق الطائفي، يحاول الكثيرون من المخلصين أن يتحدوا عن إسلام بلا مذاهب وأن يواجهوا الموقف بشعارات الوحدة الإسلامية في جوّ مليء بالمثالية والخيال كما كانت القضية مطروحة على ساحة خالية من العقد الصعبة. وهل يمكن أن نطرح القضية بهذه الروح من دون النفاذ الى عمق المشكلة وطبيعتها، وكيف يمكن أن نتجاوز ونحن نطرح الإسلام بلا مذاهب، هذا الفكر الضخم الذي جر وراه آلاف الكتب والابحاث المشتملة على الردود حول هذا التشريع او ذاك، او في نطاق هذه الفلسفة او تلك، او من أجل هذا الشخص أو ذاك وقد لا يقتصر تأثيرها كما ذكرنا على الجانب الفكري بل تعدّاه الى الجانب الواقعي العملي الذي يطبع المجتعات بطابعه المميز فيما يفكرون وفيها يشعرون به وفيما يعملون له. إن الهروب من هذا كلّه يمثّل تبسيطا للأمور المعقدة والسير في غير اتجاها الصحيح.
اذن الواجب المطلوب هو أن نتناول الجذور الخلفية لمشاعر المسلم ولمساره الفكري ولابد من خطة تربط المسلمين بالهدف الكبير أمام الخطر الكبير الذي يتناول وجوده لأن عظمة الهدف الكبير وخطورته تربط الانسان بالآفاق الرحبه التي تتجاوز الحواجز النفسية في عملية انفتاح على الواقع المتحرك ابدا في اتجاه الله، وليس معنى ذلك أن نتنكّر للحواجز، بل كلما هناك انك تتعامل معها بطريقة واعية تعترف بوجودها من خلال الاعتراف بالعوامل الفكرية والعملية التي ساهمت في وجودها وامتدادها لتبحث كيف يمكن تجميد تلك الحواجز في الحالات التي يفرض عليك الواقع عملية التجميد او تحريكها في المجالات التي يمكن أن تتحرك فيها بوعي ومرونة واخلاص. أو تهدمها فيما تملك من وسائل واقعية تجمع بين عملية الهدم من جهة، والبناء من جهة اُخرى لتكون السلبية عندما تتحرك في الحياة خطوة في طريق الايجابية وذلك من أجل المواجهة المخلصة لعوامل الخطر الموجودة في الساحة.
وهذه هي الروح التي نلمسها في كلمات الامام علي(عليه السلام) وهو يحدثنا عن تجربته الذاتية فيما واجهه من عمليّة التنكر لحقّة في الخلافة وفيما انطلق فيه من خطوات عمليّة لم تحدد مسارها في الحالة النفسية المعقدة التي تعتبر السلبية موقفاً طبيعياً يمنعها من المشاركة في الحلول او تتحرك في الاتجاه الايجابي في الجانب المضاد الذي يثير المشكلة في الواقع المرتبك الخطر. بل كان المسار في مواجهة المشكلة هو الايجابية من موقع الشعور بالهدف الكبير الذي يحدد القضية من موقع المسؤولية الإسلامية الكبرى.
انظروا اليه(عليه السلام) حين يقول في خطبته في نهج البلاغة وهو يتحدث عن الفترة الاولى بعد وفاة النبي محمد(صلى الله عليه وآله): «فما راعني إلا امتيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي حتى اذا رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يريدون محق دين محمد(صلى الله عليه وآله)فحثيت، إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً، او هدماً، تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم هذه، التي هي انما متاع ايام قلائل يزول منها مازال كما يزول السراب فنهضت حتى زاح الباطل وزهق، وأطمأن الدين وتنهنه».
وبذلك رأيناه يشارك في حل المشاكل الكبرى التي تعترض الحياة الإسلامية آنذاك بفكره وخطواته العملية دون أن يعني ذلك تنازلا عن الموقف.
الأمر الذي نخرج منه بفكرة محدّدة نتخذها كقاعدة فيما نواجهه من مشاكل آنية كتلك المشاكل، وهذه الفكرة هو أن الايجابية في مواقف الاختلاف في الرأي لا تعني الانتقال الى الجانب الآخر، بل تعني الوقوف في الارض المشتركة لخدمة القضية المشتركة من دون تشنج وانفعال، مع الحفاظ على طبيعة الموقف الحق. وذلك هو الاسلوب الأمثل الذي يُبقي القضية الواقعية في موقعها الطبيعي من قضايا الحق والباطل، ويفسح المجال للروح الإسلامية العامة أن تتحرك في وجه الخطر الدائم الذي يهدد القضية من الأساس، وقد نستلهم هذه الروح من كلمته(عليه السلام) التي خاطب بها جماعة من جيشه (جيش اهل العراق) وقد سمعهم يسبّون أهل الشام في قتاله لهم في صفين وقد قال لهم فيما روي عنه(عليه السلام): «اني اكره لكم ان تكونوا سبّابين، ولكنكم لو وصفتم اعمالهم وذكرتم حالهم. كان أصوب في القول، وابلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم اياهم ربنا (اللهم) احقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم حتى يُعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به».
إن الامام في كلمته هذه لا يُلغي الصراع أبدا ولكنه يحدّد لهم روحيه الصراع لتكون الروحية التي لا تسهتدف تدمير الشخص للشخص ولكنه يستهدف تدمير الفكرة الضالّة بل تستهدف الحق في كلّ اساليبها وتطلّعاتها ثم يحدّد لهم الادوات التي تجعل منه اسلوباً عملياً يشارك في سلامة الموقف بدلاً أن يشارك في تفجيره وبذلك لا تعود القضية التي تطرح نفسها في ساحة المشكلة الطائفية لا تعود في الغاء الخلافات والمذاهب بل القضية هي الغاء اعتبارها اساساً للفرقة والبعد والسلبية والحقد والبغضاء وذلك من خلال الروحية التي تحكم الموقف والادوات التي تتحرك في الطريق .
أما الخطوات العملية في هذا الاتجاه فتتشكّل في دراسة الموقف دراسة فكرية تحترم فيها الافكار ولكن من خلال قابليتها للمناقشة وادارة الحوار لا كأفكار مقدّسة لا تقبل النقد وذلك لانّها لا تعتبر من المسلّمات القطعيّة حسب الفرض. وقد لا تدّعي أن القضية التي نطرحها تدخل في باب الحلول السهلة البسيطة لأننا نعرف أن مواطن الخلاف لا تخلو من حساسيات تمس المشاعر والمواقف ولكن الهدف الكبير المنطلق في رحلة الاخطار الكبيرة والروحية التي تحكم الارتباط بالهدف كفيلان بتذليل كثير من الصعاب في هذا الاتجاه. وأحسب إن إثارة القضايا في نطاق الحوار على الاسس الإسلاميّة له تضمن لنا الوصول الى تقارب في الفهم والرؤيا والتصور مما قد يساهم في تقريب المسافات ان لم يساهم في الوصول الى وحدة في ذلك كُلّه، هذا من الناحية الفكرية، أن نلح على الحوار وأن نهيء للحوار أجوائه وأن نهيء له ادواته وأن نهيء كُل المسلمين لأن يحترموا أفكار غيرهم احتراماً يجعلها في موقع المناقشة والنقد لا احتراماً يجعلها في موقف التعبّد الاعمى والايمان الاعمى لاننا نواجه في هذا السبيل مشكلة اُخرى وهي ان الكثيرين من المسلمين لا يقرأون أفكار المسلمين الآخرين ولا يقرأون كتبهم ومع ذلك يصدرون الاحكام عليهم دون قراءة بل من خلال ما سمعوه من فلان وفلان. اننا نحتاج الى أن نقرأ كل ما عندنا لنفهم كلّ ماعندنا وبعد ذلك نصفّي الترك ونعرف كيف يمكن أن نأخذ التركه صافيه من كل مشاكل ومن كل صراع. هذا من الناحية الفكرية.
وأما من الناحية العملية التي تمس حياة المسلمين وبالتأكيد الدائم على مواجهة التحديات المصيريّة التي تواجه الإسلام والمسلمين بأساليب عملية في مستوى تلك التحديات حيث نعلم ان الاخرين لن يريدوا أن يحطّموا هذا البلد او ذاك وهذه الطائفة او تلك وانما هم يريدوا أن يحطموا الإسلام في العمق وتكون هذه المواجهة بالبحث الدائم عن مواطن اللقاء، وبالبحث في التصورات الإسلامية للقضايا العامة. واثارة الشعور بالمسؤولية اتجاهها وتقديم الشواهد التاريخية على المواقف الواعية التي كان يقفها قادتنا الإسلاميون التاريخيون في خلافاتهم ومواقفهم في مواجهة التحديات كافة، تحديات الكفر والضلال وبالتركيز على الخسائر التي يمكن أن تلحق بالمسلمين أجمع بمختلف طوائفهم ومذاهبهم في إفساح المجال للخلافات الطائفية التي يغذيها الاستعمار بأساليبة المتنوعة، وبتقديم الامثلة على ذلك من خلال حركة الواقع فيما تملك من أمثله على ذلك كُلّه في تاريخنا المعاصر، ولعل من البديهي ان ذلك لن يتحقق الا من خلال خطة عمليّة متحركة في ظل قيادات واعية ترصد الواقع يعني يقظة مفتوحة على ماحولها وترصد المستقبل بالخطط العملية الحكيمة وذلك ضمن خطة متكاملة سليمة شاملة. ونحسب أن مثل هذا الجو يساهم ولو بعد فترة من الزمن في تحويل المسلمين عن الصراع الطائفي الى الحوار الفكري العملي الذي يبحث في كل مايختلف فيه المسلمين من دون خلفيات حاقدة بل بروح يدفعها الشعور بمسؤولية الفكر في الإسلام الى مواجهة كل المسائل المعلّقة بصراحة وموضوعية وإخلاص. ويبعثها هذا الاحساس بالخطر الى التجمع في الموقع الواحد من اجل القضية الواحدة.
أمّا اجواء الاختلافات الاخرى، القومية والاقليمية والشخصية والاقتصادية فتحتاج الى العمل الطويل المجهد الذي بدأه رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) في تركيز الروح الإسلامية في وعي المسلمين وإلغاء الفوارق الاخرى بطريقة عملية واقعية ثم اعتبار هذه العناصر (عناصر الاختلاف) إطار للحياة يمكن أن يكفل للناس خصائص متنوعة تغني تجربتهم وتنوع افكارهم واوضاعهم ويخلق بينهم نوعاً من التفاهم والتفاعل الحضاري ولكنها لا تكفل ايجاد.
الحواجز الروحية بين ابناء الفكر الواحد والعقيدة الواحدة وبذلك تتحول في وعي حركتها الاساسية الى معنى انساني يجمع الفصائل المختلفة والمتنوعة من بني الانسان في اطار واحد يتسع للجميع دون ان يُلغي الخصائص الذاتية لهم.
أما التاريخ القديم فأنه بأمكاننا أن نثيره كما أثاره الإسلام كعبرة فيما يحمله من اساليب العبر في الاتجاه الايجابي والسلبي ولكن من دون أن نسمح له أن يطبع شخصيتنا بطابعة، لأن الإسلام قد وضع حاجزاً كبيراً من الايمان بالله بين الانسان وبين الارتباط بالجاهلية وفي كل ما تمثله الجاهلية من فكر وتاريخ، ولابد لنا في ذلك كله من حشد كل اساليب الفكر والتربية في الوقوف امام هذه الاتجاهات في خطة حكيمة شاملة وذلك لأن بروز بعض الحقائق الجديدة ألغت الكثير من الاعتقادات والجزئيات والمسلمات التي كنّا نتّخذها مصدراً وحيداً وموثوقاً.
وقد لا نستطيع أن نزعم لأنفسنا اننا سنصل الى الغاية المنشودة في هذا الطريق لأن قوى الفكر والضلال ستقف بيننا وبين مانريد أن نحققه، ولكن لابد لنا أن نخوض هذا الصراع بكل ما نملك من وسائل في أيّ جانب من جوانب الحياة. انّها ضريبة الجهاد في سبيل الله التي يحمل عبء تقديمها المجاهدون المخلصون.
إننا نشعر بأن قضية توحيد المسلمين في ضمن مواقف موّحدة ليست عملية بسيطة لتعالج على مستوى الحلول النظرية العامة. بل هي من أصعب القضايا وأشدها تعقيداً لانها لا تلتقي بالعناصر الداخلية التي تمنع من ذلك، بل تصطدم بكثير من العناصر الخارجية التي تمثلها القوى العالمية ذات المصالح السياسية والاقتصادية والعسكرية في السيطرة على واقع المسلمين ارضاً وشعباً وفكراً واقتصاداً، ولذلك فأن اي نداء توحيدي في نطاق حياة المسلمين ينطلق من واقع الشعور بالتمايز الحضاري الإسلامي مقابل الحضارات الاخرى، فيجب على المسلمين أن يكونوا في المكانة التي بوأهم الله فيها، وهي أن يكون زمام الريادة والقيادة في ايديهم فأنهم الامة التي اجتباها الله سبحانه وتعالى لقيادة الامم. ودور المسلمين أن يكونوا دائماً في الطليعة وأن يمسكوا بأيديهم تقدم الزمان، وأن يكونوا خير امة اخرجت للناس في الارض ويكونوا بهذا شهداء على الناس وقادة البشرية.
وإن أي دعوة تُعتبر دعوة مضادّة ضد مصالح القوى الاخرى مما يجعلها تستنزف كل قواها من اجل القضاء على أي حركة من هذا القبيل في مهدها وفي هذا نعتقد أن القضية تحتاج الى جهود متواصلة في هذا السبيل ونحتاج الى تضحيات كبيرة في أكثر من جانب وتتوقف على الانتظار طويلاً في صبر وايمان، حتى نصل الى الغاية الكبيرة لتوحيد المسلمين كل المسلمين في بقاع الارض.
ويجب أن نشير في نهاية المطاف الى ان شعار توحيد المسلمين والقضاء على عوامل الاختلاف والتفرقة لا يعني الوحدة في كيان سياسي موحد يجمع المسلمين في دولة واحدة لأننا لا نجد ذلك اساسياً في عملية التوحيد فيمكن ان يجتمع المسلمون على الإسلام كعنصر توحيدي اساسي مع اختلاف الكيانات القانونية التي لا تمثل حاجزاً نفسياً ضد بعضهم البعض ولكن في اطار المصلحة الإسلامية العليا التي تكون هي المقياس في التعدد ان كانت المصلحة في التعدد، وفي الوحدة ان كانت المصلحة في الوحدة.
ان القضية كل القضية، ان الإسلام يجب أن يظل يمثل الوحدة العميقة بين افراده واتباعه حتى لو اختلفوا على اكثر من جانب في التاريخ والتشريع والفلسفة وذلك استجابة لنداء الباري تعالى: (واعتصموا بحبل اللّه جميعاً ولا تفرقوا).
وعلى هذا فأن الإسلام يجمع ولا يفرق، ويبني ولايهدّم ويقوّي ولا يضعف هذا هو الإسلام الذي ندعو اليه. إسلام القرآن والسنّة. إسلام الصحابة والتابعين لهم بأحسان الإسلام الذي انتصرت به هذه الاُمة وفتحت العالم وورثت مماليك قيصر وكسرى. وأقامت دولة العدل والاحسان وحضارة العلم والايمان. هذا الإسلام الذي يجمعنا ولا يفرقنا وهو الضمان الوحيد لوحدة الاُمة. وهو الضمان الذي يُبقي عليها، فلا تفرق ولا تشتّت ولا تشرذم ولا يعادي بعضها البعض. (وإنّ هذه امّتكم امة واحدة وأنا ربكم فأعبدون. ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ربكم).
وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين
والحمد لله رب العالمين
المصادر
1- قصّة الحضارة - ول ديوارنت - ترجمة محمد بدران - الجزء الثالث عشر (دار الجليل).
2- نهج البلاغة - تحقيق الدكتور صبحي الصالح - مؤسسة دار الهجرة الطبيعة الخامسة .
3- ملحمة الوحدة - اصدار وزارة الارشاد.
4- مجلة التوحيد - العدد 86 - 95 - 85 - 64 - مجلة إسلامية تصدر عن مؤسسة الفكر الإسلامي - مؤسسة التوحيد للنشر الثقافي.